وقّعت جمهورية الصين الشعبية والجمهورية الإسلامية الإيرانية في 27 آذار 2021 اتفاقاً للشراكة الاستراتيجية لمدة 25 عاماً في المستويات كافة، تحت عنوان “برنامج التعاون الشامل” القصير والمتوسط والطويل الأجل، باستثمارات قد تصل إلى 400 مليار دولار ضمن المشروع الصيني “طريق الحرير”؛ وهو يدشّن لمرحلة جديدة من العلاقات الاستراتيجية الدولية ويبذر بذرة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب؛ فيما تعود أصول هذه الاتفاقية إلى كانون الثاني 2016.
مضمون الاتفاق
يتضمن البرنامج تسع مواد وثلاثة ملاحق:
المادة الأولى، تتناول آفاق التعاون التي تقوم على النهج المربح Win-Win للجانبين، وبذلك تكسر القاعدة التي تطبقها الولايات المتحدة في علاقاتها الدولية رابح- خاسر.
وتحدّد المادة الثانية “المأمورية”، أهداف التعاون لتشمل المشاركة الاستراتيجية في المجالات الاقتصادية كافة والتعاون التربوي والتكنولوجي، بالإضافة إلى التعاون الأمني والعسكري، والأهم هو دعم المواقف المتبادلة السياسية في المحافل الدولية والمنظمات الإقليمية. وبذلك تمتلك إيران حق النقض “الفيتو” بشكل غير مباشر، وهنا البُعد الجوسياسي في الاتفاقية.
أما المادة الثالثة “الأهداف الأساسية”، فتؤكد على مراعاة السياسات الاستراتيجية الثنائية عند صياغة الأهداف الرئيسية.
وتشمل “مجالات التعاون” وفق المادة الرابعة، الطاقة والنفط، والطرق السريعة والسكك الحديدية والاتصالات، والتعاون السياحي والعلمي والأكاديمي، والقضاء على الفقر؛ فيما يقوم التعاون المصرفي والمالي على أساس التبادل بالعملات الوطنية للبلدين للتخفيف من حدة تأثير العقوبات عليهما، والذي يلعب الدولار رأس الحربة فيها. وتكاد تكون الصين الدولة الوحيدة في العالم التي أعلنت قضاءها على الفقر المدقع مع نهاية عام 2021.
وتُحيل المادة الخامسة ” الإجراءات التنفيذية” إلى الإجراءات المنصوص عليها في الملحق رقم 3 من الوثيقة. ويقوم الطرفان بإنشاء آلية عمل يرأسها مسؤولون رفيعو المستوى لـ “الإشراف والتنفيذ” بحسب المادة السادسة، ويشرف على مراقبة تنفيذ أحكام الوثيقة وزارتا الخارجية في كل من البلدين.
وتأتي المادة السابعة “التعاون في دولة ثالثة”، لتؤكد أنّ هذا التعاون هو متعدد الأطراف وسيطاول دولاً مجاورة أو دولاً أخرى ضمن مبادرة الحزام والطريق. وتساند المادة الثامنة “إنكار الضغوط الخارجية” مضمون المادة السابعة لتشكّل إطاراً قانونياً لحماية أي طرف ثالث يتعرّض لضغوط قانونية من قبل جهات متضرّرة من التعاون.
وتنص المادة التاسعة والأخيرة على “الأحكام الختامية”، والتي تنص على تعديل ملاحق الوثيقة بموافقة الطرفين من خلال التشاور والتنسيق.
لبنان أين؟
هنا لا بد من التوقف جلياً عند المادة السابعة من هذه المعاهدة، وهي أن يطال البرنامج دولاً أخرى ومنها لبنان؛ والذي لطالما دعا أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في هذا السياق الحكومة والدولة اللبنانية، بالتوجه شرقاً لانتشال الاقتصاد اللبناني من أزمته المالية والمعيشية الكارثية.
فإذا تحقق بالفعل ذلك، أي التوصل أيضاً إلى اتفاقية برنامج شامل مع الصين يشمل كل المجالات الآنفة الذكر ضمن التعاون مع إيران، فإنّنا نكون أمام مفترق طرق مفصلي في التاريخ اللبناني؛ لأسباب عديدة أهمها:
- انتشال لبنان من انهياره خارج مظلة صندوق النقد الدولي وشروطه المجحفة ذات الانعكاسات الاجتماعية والمعيشية القاسية.
- فك الارتباط بالرأسمالية المتوحشة والتملّص التدريجي من سطوة الدولار المتحكّم الأول في الانهيار الحالي وفي انهيار ثمانينات القرن الماضي، والتحلّل من الريع المالي وكارتيل المصارف اللبنانية والانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجي.
ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ أنه من الصعوبة بمكان فك الارتباط الكلي للنموذج الاقتصادي اللبناني عن المنظومة الغربية ومؤسساتها المالية. فالكيان اللبناني قام ببنيته وهيكليته منذ نشأته على دعائم ومقوّمات النظم الرأسمالية الغربية.
والأمر مرتبط أيضاً بالنفوذ الأميركي في لبنان، والذي يتحكم بالاقتصاد اللبناني عبر مصرف لبنان. وبالتالي لن يستسلم بهذه السهولة عبر إضعاف نفوذه المالي والاقتصادي. وإذا حدث هذا الأمر، أظن أنه سيأتي عقب تسوية في المنطقة ويكون العنصر “الإسرائيلي” هو الأساس، أي التنازل عن النفوذ الأميركي الاقتصادي والمالي مقابل ضمان استمرارية الحفاظ على أمن الكيان “الإسرائيلي” وأطماعه في الغاز والنفط.
العقوبات الأميركية: إسقاط بالضربة القاضية
منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي تتعرّض لعقوبات أميركية، بعضها اتخذ في فترات تاريخية عند الطابع الأممي وفي فترات أخرى كانت آحادية الجانب، إلى حين توقيع اتفاقية النووي في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تنفّس فيه الاقتصاد الإيراني الصعداء. ثم ما لبث أن تم نقض الاتفاقية في العام 2018 في عهد خلفه الرئيس السابق دونالد ترامب ليشتد الحصار الاقتصادي على إيران ما أثر بشكل كبير على الداخل الإيراني.
ولكن إيران اتبعت بالمقابل سياسة الالتفات على العقوبات، واعتمدت على اتفاقيات ثنائية خارج نطاق النظام المالي العالمي وعلى تهريب النفط خارج مراقبة العقوبات، وكذلك على مناعة داخلية قوامها الاقتصاد المقاوم الذي يعتمد بالدرجة الأولى على نشر وتنمية ثقافة شعبية وطنية تقاوم كل أنواع الاحتلال، ومنها العقوبات الاقتصادية تدعمها أيديولوجية دينية قوامها أميركا الشيطان الأكبر، ومواجهته، حيث الصمود في وجهه له أجر شرعي.
نجحت إيران لعقود في مجابهة العقوبات دون انهيار لماليتها واقتصادها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية، رغم تأثرها الشديد بالعقوبات في نواحٍ اجتماعية ومعيشية. وعلى أبواب الحديث عن إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني عقب انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة_ وهي فرصة لجميع الأطراف ومنها الإيراني لضخ الأوكسجين في رئة الاقتصاد الإيراني، جاءت اتفاقية التعاون المشترك لتسقط العقوبات الأميركية بالضربة القاضية، متيحة لإيران امتلاك قوة أكبر في المفاوضات حول الاتفاق النووي الإيراني وفرض شروطها.
صراع الاستقطاب
إنّ هذا الاتفاق هو أحد أوجه الصراع الصيني- الأميركي من جهة، والإيراني- الأميركي من جهة أخرى. وهو عبارة عن شراكة طويلة الأمد تؤسس لنواة استقطاب لكل دول العالم المتضرّرة من السياسات الأميركية لتكوين قطب عالمي في مواجهة الآحادية الأميركية؛ بحيث يمتلك مركز الاستقطاب الصيني كل المقوّمات الجاذبة من اقتصادية ومالية وتكنولوجية مدعومة بمقوّمات عسكرية توفرها الدعامة الثانية وهي الاتحاد الروسي لتتكامل مع إيران وكوريا الشمالية.
فهل ستدفع هذه الاتفاقية الجانب الأميركي للالتزام بكلام زبينغو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأسبق في عهد كارتر بأنّه “لقد أذعنت الولايات المتحدة لحقيقة هي أن إيران بلد مهم في منطقة مهمة”. و”لا بد أن تكون العلاقات معها قائمة على أساس الاحترام المتبادل؟”
وهل نشهد استسلاماً للولايات المتحدة في هذا الملف أم سنشهد مزيداً من الصراعات قد تكون الحروب أحد أدواتها عندما يفشل الاقتصاد؟ أم أنّ موازين القوى العسكرية لم تعد أيضاً لصالح الولايات المتحدة الاميركية، وبالتالي الاتجاه نحو التعاون الدولي وتقسيم مناطق النفوذ وحروب باردة جديدة؟
د. أيمن عمر